هل الانسان مسير أم مخير؟هذا ما ستعرفه
من مقال اقدار القلوب للشيخ محمدحسين يعقوب
هل حيرك يوماً السؤال عن الإنسان: هل هو مسيّر أم مخيّر؟هل بررت يوماً إصرارك على ذنب: بأن الله خلقك هكذا، وقدر عليك ذلك؟.. تعال نتدارس..
أقدار القلوب.. وقسمتها:
أحبتي في الله.. تأملوا معي هذين الحديثين:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض، والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب". [الترمذي، وصححه الألباني]
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل
يقول ابن الجوزي رحمه الله:
(فهذا يدل على أن من خُلق من الصفا صُفِّيَ له، ومن خُلق من الكدر كُدِّر عليه، فلم يصلح للقرب والرياضة؛ وإنما يصلح عبدٌ نجيب.
خُلق إبليس من ماء غير طاهر؛ فكانت خلعة العبادة عليه عارية، فسَخُن ماء معاملته بإيقاد نار الخوف، فلما أعرض عنه المَوقِد عاد إلى برودة الغفلة.
وخلق عمرُ من أصلٍ نقي؛ فكانت أعمال الشرك عليه كالعارية، فلما عجَّت نيران حَمية الجاهلية أثَّرَت في طبعه، إلى أن فَنِيَ مَدَدُ حرها بفناء مدة تقدير إعراضه؛ فعاد سُخُنُه إلى بَردِ العِرفان.
يا هذا!
لاحت عقبة المعصية لآدم وإبليس، فقال لهما لسان الحال: لابد من سلوكها، فسلكا يتخبطان في ظلامها؛ فأما آدم فانكسر قلبه في طريقه، وبكى لصعوبة مضيقه، فهتف به هاتف اللطف: لا تجزع؛ أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.
وأما إبليس فجاء ضاحكاً معجباً بنفسه؛ فثار الكبر من قلبه، فتكاثرت ظلمة طريقه، فلما ارتفعا إلى رأس العقبة: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] فقال إبليس: يا آدم كنا رفيقين في عقبة المعصية، فكيف افترقنا؟، فنادى منادي الأزل: {نَحْنُ قَسَمْنَا
شبهات.. وشهوات.. وردود :
إخوتاه..
وإذا كان أهم أسباب تلك الرواسب هو قابلية المحل ((القلب)) لِأ ن تستقر فيه مثل هذه الشوائب؛ فقد تقول: وماذا عليَّ وقد خلقني الله بذلك القلب؟ .. المشكلة ليست من قبلي؛ فلو أن الله هداني لكنت من المتقين!!
وهذا – لعمر الله – كذب وبهتان، وخداع من النفس ووسوسة شيطان؛ قال تعالى ردا على هذه الشبهة :{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 59].. فالله يرسل إلى جميع الخلق رسائل هداية وبيان، ولا تمر بعمر الإنسان لحظة لا تخلو من إشارة؛ لكن الناس يتفاوتون في الفهم.
فلا تزعمن أن سبيل الهدى لم يمهد لك قطّ؛ بل جاءتك الآيات والنذر، وبُين لك طريق الهدى؛ فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن، ولكن أعرضت عنها، وعاندتها وتكبرت، وجحدت بها مع إيقان نفسك بصدقها؛ قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (*) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14-15].
فأرجو اللهَ أن تُلقِي عنك – أيها الحبيب – هذه المعاذير الحاضرة عند أي نقد يوجه إليك؛ وإلا فقل لي بالله عليك، واصدق مع نفسك؛ هل تجد نفسك مُرغما على فعل السيئات؟.. هل لم تمر بك لحظة اخترت فيها طريق الغواية وآثرته على سبيل الهداية؟.. كان أمامك نداء الصلاة: "حي على الفلاح"، ومن الجانب الآخر ضجيج حزب الشيطان.. فأيهما اخترت؟!
كان بمقدورك سماع القرآن ودروس العلم، فآثرت الغناء والملاهي والأفلام.
ستقول: لأنني خلقتُ هكذا، وأراد الله لي ذلك وكتبه علي؟
للأسف!.. أنت تحتج بالقدر في غير موضعه؛ فما أدراك بما كُتب لك في اللوح المحفوظ؟.. وكيف تتجرأ على ربك- وهو الحكمُ العدل- فيخطر ببالك أنه يظلم أحداً .. أتظن أن الله ظلم هؤلاء فرزقهم قلوباً غُلفاً وآذاناً صُما، واصطفى أولئك فيسر لهم الأمر؟!
يا من تقول هذا، والله الذي لا إله إلا هو، أنت لا تعرف ربك، ولو عرفتهُ لما خطر ببالك أدنى شك في ذلك.. إنها شبهات تنبع من نفس لا تعرف مدى حقارتها ووضاعتها في جنب الله تعالى، نفس لم تُقدر الله حق قدره.
وأنا أسألك:
أولا: هل أنت عبد أم رب؟!.. أمثل هذا الاجتراء يصدر من عبد لسيده؟!.. لا والله، ما هذا حق العبودية.. ولكنك لا تدري، وتلك هي المصيبة. قال الشاعر:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبةُ أعظمُ
أنت عبد الله الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك، وقد بيّن لك الحق والباطل: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا }الإنسان:3. فهل اخترت الهدى والحق أم آثرت الغي والضلال؟
ثم ألم يقل الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5- 10] .. إذا فالعبد ذو إرادة عليها مناطُ التكليف؛ ومن أجل ذلك كان الثوابُ والعقاب..
فهمت؟!!
ثانيا: تقول: خلقني بقلب خبيث لا يُحبُ الطاعة، ولا يعرف إلا طريق المعصية، وأسألك بالله: هل اطلعت على الغيب فعرفت ما كان وما هو كائن؟ وما دمت تنفي هذا قطعا؛ فلماذا تحتج بما تجهل؟ لماذا لا تنظر فيما قدمت يداك؟، لماذا لا ترجع باللائمة على نفسك فتسعى في إصلاحها.
وبعيداً عن مثل هذه الترهات والشبهات: هل جلست الليل والنهار لا تفتر عن سؤال ربك أن يهبك قلباً سليماً؟.. هل ظللت تمد يديك إلى السماء تقول: يا رب قد فسد قلبي مني؛ فآتني قلباً جديداً يوحدك ويعرفك، ويحبك ويخضعُ لك؟!.. هل اشتهيت ورجوت وعملت لذلك؟
أرأيت كيف أن الجناية منك لا محالة، وأنك لا تفقهُ الدخول على الملوك كيف يكون؟.. فمن تقرب إليه سبحانه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن أتاه يمشي يأتيه الودود سبحانه هرولة.. فإن لم تجد قرباً فاعلم أنك لم تتحرك أصلاً، بل هي أوهام وحظوظ نفس، فالله لا يقبل إلا الطيب الخالص الذي يبتغى به وجهُهُ سبحانهُ وحده.
الله عدل.. لا يظلم أحداً:
ولحرصي عليك فلن أدعك على مثل هذه الشبهات والشكوك؛ فإليك هذا الكلام النفيس الذي ينبغي أن ينقش على القلوب بمداد الإيمان، لشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- إذ يقول:
"الله سبحانه لا يظلم مثقال ذرة؛ بل مع غاية عدله فهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بعبده من الوالدة بولدها كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
وهو سبحانه أحكم الحاكمين كما قال نوح في مناجاته: {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45].
فالظلم هو: وضع الأشياء في غير موضعها، وحينئذ فليس في الوجود ظلم من الله سبحانه؛ بل قد وضع كل شيء
في موضعه مع قدرته على أن يفعل خلاف ذلك، فهو سبحانه يفعل باختياره ومشيئته، ويستحق الحمد والثناء على أن يعدل ولا يظلم.
فهو على كل شيء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهوخالق كل شيء، وهو عادل في كل ما خلقه، واضع للأشياء في مواضعها، وهو قادر على أن يظلم؛ لكنه سبحانه منزه عن ذلك، لا يفعله؛ لأنه السلام القدوس المستحق للتنزيه عن السوء.
وهو سبحانه سُبوحُ قُدوس يسبح له ما في السماوات والأرض، و"سبحان الله" - كما قال ميمونُ بنُ مهران-: )هي كلمة يُعظمُ بها الرب، ويحاشى بها من السوء). وكذلك قال ابن عباس وغير واحد من السلف: إنها تنزيهُ الله من السوء.
وقال قتادة في اسمه المتكبر: )إنه الذي تكبر عن السوء.. ) وعنه أيضا: )إنه الذي تكبر عن السيئات).
فهو سبحانه منزه عن فعل القبائح؛ لا يفعل السوء ولا السيئات، مع أنه سبحانه خالق كل شيء؛ أفعال العباد وغيرها، والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه؛ كان قد فعل سوءاً وظلماً، وقبيحاً وشرا، والرب قد جعله فاعلاً لذلك، وذلك منه سبحانه عدل وحكمة وصواب، ووضع للأشياء في مواضعها.
فخلقُهُ سبحانه لما فيه نقص أو عيب للحكمة التي خلقه لها هو محمود عليه، وهو منه عدل وحكمة وصواب وإن كان في المخلوق عيبا،ً ومثل هذا مفعول في الفاعلين المخلوقين.
فإن الصانع إذا أخذ الخشبة المعوجة، والحجر الرديء واللبنة الناقصة، فوضعها في موضع يليق بها، ويناسبها؛ كان ذلك منه عدلاً واستقامةً وصواباً وهو محمود، وإن كان في تلك عوج وعيب هي به مذمومة.
ومن أخذ الخبائث فجعلها في المحل الذي يليق بها؛ كان ذلك حكمةً وعدلاً؛ وإنما السفة والظلم أن يضعها في غير
موضعها، ومن وضع العمامة على الرأس، والنعلين في الرجلين؛ فقد وضع كل شيء موضعه، ولم يظلم النعلين؛ إذ هذا محلهما المناسب لهما.
فهو سبحانه لا يضع شيئاً إلا موضعه؛ فلا يكون إلا عدلاً، ولا يفعلُ إلا خيراً؛ فلا يكون إلا مُحسناً جواداً رحيماً، وهو سبحانه له الخلقُ والأمر".
إخوتي في الله..
من السبب؟!
أريد أن تصلوا إلى أصل الداء الذي يقطع كل واحد منكم عن ربه.. فكثيراً ما يتوقف الإنسان عند مفاهيم معينة، ويثبت له بعد وقت عدم صحتها..
قد ترى أنك تؤتى بسبب الظروف التي تحيطك؛ فتقول: لو أن البيت كان خالياً من المنكرات فلا تلفاز ولا أغاني ولا.. ولا.. لكنت ملتزماً حقا.
أو تقول: مشكلتي هي الناس، فالشوارع تموج بالفتن، وكلما جاهدت نفسي سقطت في وحل المعصية من جديد، وماذا عساي أن أفعل وسط هذا الزحام الهائل من الفواحش؟!
أو تقول: إذا عاملت الناس اليوم بالدرهم والدينار فحدث ولا حرج عن البلايا.. ماذا أصنع؟؟.. كلما أردت أن ألتزم تشدني الدنيا.. لا يمكن أن أعيش كما تتخيلون- أيها الدعاة-؛ فإن ما تتحدثون عنه غير واقعي.
وآخر يرى مشكلته أنه دائماً كلما حاول السير في طريق الهداية تزل قدمه، ولا يلبث أن ينحرف، فهو ما يقدر
عليه؛ لأن الله لا يريد له الهداية (بزعمه!!)، فيقول لك: لا تحاول معي، فالطريق مسدود، وأنا الآن أعيش حياتي حتى لا أخسر الدنيا والآخرة.
والشبهات نحو ذلك كثيرة، ولكني ألفت نظرك ابتداءً - قبل أن أظهر لك ما التبس عليك- أنك تلاحظ أنه لا أحد يعترف بأخطائه، وأنه أُتي من قبل نفسه، فالمشكلة هي: البيت.. والشارع.. والنساء.. والحكومة.. إلخ.. لا أحد يقول: "المشكلة أنا.. وأنا فقط ". هذه مصيبته، وهذه هي الآفة الحقيقية: نفسه.
ما أُتينا إلا من قبل أنفسنا الأمارة بالسوء..لابد أن نعترف بذلك بكل صراحة ووضوح.
أيها الإخوة..
إن نفوسنا تتشكل وتتلون بألوان ثلاثة؛ فتارة تأمرك بالمعاصيوالسيئات،وتارة تلومك وتزجرك عن فعل كل ما يُشينك، وتارة تجدها هادئة مطمئنة.
لذا، فإن مكمن الخطر في نفسك الخبيثة الأمارة التي أُمرت بمخالفتها، فلا تظنن أن تركك نفسك هكذا بلا ضابط؛ سيعفيك ويُبرئُ ساحتك أمام الله.
تقول:ولماذا خلق الله هذه النفس وجعلها تتشكل هكذا؟.. لماذا لم يخلقنا جميعاً بنفوس مطمئنة؟!!
أقولُ ما قالهُ الله سبحانه وتعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}الأنفال:37
ليُبتلى الصدق والإخلاص فيك، ليظهر ما في باطنك ظاهراً؛ فتعرف حقيقة أمرك؛ فتسعى في تغيير ما بك؛ فتكون له عبداً حقا، توحده حق التوحيد، وتعرفهُ حق المعرفة.
ثم اعلم أن لله سُننا كونية لا تتبدل ولا تتغير: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}