[b]مولده وبعثه إلى الأزهر
ولد توفيق بن الحاج محمد خليفة فى بلدة أبوتشت محافظة قنا بمصر سنة 1294هـ - سنة 1877م من أبوين عربيين ينتسبان إلى قبيلة الوشيشات إحدى القبائل العربية التى تمتد جذورها إلى قبيلة بنى هلال .
وكان أبوه الحاج محمد خليفة من الأتقياء الصالحين ، صوفى خلوتى ، أخذ العهد على قطب زمانه العارف بالله الشيخ أحمد الشرقاوى بنجع حمادى ، وكان كريماً يؤم داره الغرباء وعابرو السبيل ، يصوم أكثر أيام العام ، ويلازم مسجده الذى بناه بجوار بيته طول الليل راكعاً ساجداً ذاكرا ربه مستغفراً ذنبه .
وقبل ان يتم – فقيدنا – حفظ كتاب الله فى بلده أرسله والده مع أخيه الأكبر ( الشيخ محمود ) – الذى كان يطلب العلم فى الأزهر الشريف – سنة 1308هـ - 1890م وكانت سنه ثلاثة عشر عاما ، فأكمل حفظ القرآن الكريم ، وفى أثناء حفظه لكتاب الله أخذ يتلقى مبادئ العلوم الدينية والعربية .
مدرسوه
منذ استقر الشيخ توفيق البتشتى فى الأزهر أخذ يتخير العلماء الأعلام يستقى من فيض علومهم ويتحلى بكريم أخلاقهم ، ويتأسى بحميد سجاياهم ، فأخذ عن كثير منهم ، ولكنه كان كثير التلقى عن : الشيخ أحمد الرفاعى الفيومى المتوفى سنة 1314هـ - سنة 1896م . والشيخ محمد بن سالم طموم المتوفى سنة 1314هـ - 1896م . والشيخ هارون بن عبدالرزاق البنجاوى المتوفى سنة 1334هـ - 1917م ، والشيخ سليم البشرى المتوفى سنة 1333هـ - 1916م . والشيخ حسونه النواوى المتوفى سنة 1343هـ - 1924م . والشيخ محمد راضى والشيخ أبوالفضل الجيزاوى والشيخ محمد حسنين العدوى وغيرهم من العلماء .
امتحانه فى شهادة العالمية
تقدم الطالب توفيق البتشتى إلى لجنة الامتحان سنة 1326هـ - سنة 1908م المكونة من ستة من كبار العلماء يرأسهم شيخ الأزهر . وحددت له اللجنة اليوم الذى يمتحن فيه شفوياً ، فإن تأخر عن الموعد المحدد يؤجل امتحانه إلى العام المقبل . وقبل الامتحان وصله خبر بأن والديه وأخويه مرضى فسافر ليطمئن عليهم فوجد البلد مضروب عليها كردون عام ، وصدرت التعليميات الطبية بمنع خروج المقيمين منها سواء كانوا مرضى أو أصحاء .
سمع بعض خصومه بأنه مسافر ، وأنه ممنوع من الخروج من بلده فأوعزوا إلى بعض أعضاء اللجنة أن يقدموا موعد امتحانه ، وكان أخوه الأصغر ( الشيخ محمد ) طالباً فى الأزهر ، فبلغه الخبر فاتصل ببعض أساتذة الشيخ توفيق وبعض زملائه ليحبطوا المؤامرة ، وأرسل إلى أخيه يتعجل عودته ، وكان الله رؤوفاً به إذ بلغه الخبر مع انفراج الأزمه وانتهاء الحجر الصحى فى وقت واحد ، وسافر إلى القاهرة ودخل الامتحان فى الموعد المحدد .
وكان من بين أعضاء اللجنة عالم بينه وبين الطالب خصومة شديدة فأخذ يوجه إليه الأسئلة بشئ من العنف ولم يترك فرصة لغيره من الأعضاء ليختبروه ، وظهر أنه يتحداه واستمرت المناقشة ثلاثة أيام كاملة ، كانت كأنها مناظرة بين عالمين . وكان تلاميذ الطالب وزملاؤه يتكاثرون خارج اللجنة فى انتظار ما تسفر عنها هذه المناظرة – فلم تجر العادة قبل ذلك أن استمر طالب يمتحن ثلاثة أيام – ولما انتهت بفوزه ونجاحه سارو به إلى منزله بين تهليل وتكبير .
ويوم امتحن الشيخ توفيق البتشتى فى شهادة العالمية كان الشيخ أحمد نصر عضو لجنة الامتحان ، وجعل يفتش له بهذه الروح الأزهرية القديمة عن العميات والطلاسم ، وأحس بقية أعضاء اللجنة أن زميلهم الشيخ أحمد نصر يريد أن يفترس الطالب فقاوموه ، وكان أن فاز الشيخ توفيق البتشتى بشهادة العالمية ، وعندئذ قال كلمته المشهورة :
( تساوت الرءس يا أبا نصر ... أى أن كليهما أصبح عالما )
تعيينه مدرساً
بعد نجاحه فى شهادة العالمية عين مدرساً بمرتب كغيره من العلماء ، وازداد تعلق تلاميذه به ، وكان معهم كالوالد مع أبنائه ، يشتد عليهم أثناء إلقاء الدرس وشرحه ، وكانت له طريقته فى التدريس خاصة به ، إذ كانت حصة أخر الأسبوع يخصصها لأى طالب يختاره من بين طلبة الفصل ليعتلى كرسى المدرس ويقوم بشرح الدرس الذى كان على المدرس يشرحه – فقد كان جميع الطلبة يستذكرون الدروس كأنهم مكلفون بالتدريس .
حدثنى المرحوم الشيخ محمد محيى الدين عبدالحميد عميد كلية اللغة العربية جامعة الأزهر بأنه حين كان طالباً فى القسم العالى فى الأزهر كان الشيخ توفيق البتشتى مدرساً له ، قال : وكنت الأول على زملائى ، وكان عدد طلبة الفصل ثلاثين طالباً ، تعهدنا من السنة الأولى فى القسم العالى إلى السنة الرابعة ، الأول فى الفصل هو الاول فى السنة ، والثلاثون فى الفصل هو الثلاثون فى السنة ، وكنا نستذكر دروسنا كما يستذكرها المدرس .
كلفنى يوماً بإلقاء الدرس الكقرر إلقاؤه بدلاً منه ، وجلست على كرسى المدرس والشيخ توفيق البتشتى جالس مع الطلبة ، ومر عليهم الشيخ عبدالحكم عطا شيخ القسم العالى ووقف خلف الطالب يستمع إلى إلقائه وشرحه ، فأعجب به ، وقال الشيخ توفيق البتشتى : إنه ممتاز فرد عليه الشيخ البتشتى قائلاً : إن كل طلبتى مثله وهو أقلهم ( تزكية لطلبته وإعجاباً بهم )
الدراسة فى الأزهر
لم يكن التدريس فى الأزهر نظام خاص ، أو شروط لقبول الطلبة ، بل يدخله كل من شاء ويقيم فيه ماشاء أن يقيم ، ويختلف إلى الحلقة التى يختارها لنفسه ، وكل مدرس يختار كتاباً خاصاً فى علم معين يقوم بتدريسه تحت عمود من عمدان الأزهر .
وكان الطالب الكفء يطلب العلم الذى يشاء على الشيخ الذى يريد ، حتى إذا رأى فى نفسه أنه عالم ، وأنه قدير على أن يجلس تحت عمود يلقى درسه فيجتمع له الشيوخ والطلبة يشرح لهم مسائل العلم ويتلقى منهم مناقشة لاهوادة فيها لاشفيع له إلا علمه ، ولا سند له إلا لسانه الذى يبين فإن جاز الاختبار استمر فى التدريس .
كان – رحمه الله الشيخ توفيق البتشتى – من هذا الطراز المتميز فى تفكيره وطريقة تعبيره ، وأسلوبه فى عرضه للمسائل العلمية مما حبب إليه الطلاب ، فزادت حلقة دروسه ، وضاق المكان بالراغبين فى علمه ، وانفرد برقعة شاسعة من الأزهر ساعده فيها صوته الجهورى وحنجرته القوية .
صلته بتلاميذه
كان صلته بتلاميذه صلة الشيخ بمريديه ، يرشدهم ويهديهم .
وكثيراً ما كان يحتفل بتلاميذه إذا نال شهادة العالمية ، يسافر معه إلى بلده فى جمع غفير ليهنئه ويهنئ أهله ، ويشاركهم فرحهم وسرورهم . وقد يحفز هذا العمل بعض الشباب الذى يعمل فى الزراعة إلى أن يغير مجرى حياته من الزراعة إلى العلم .
حدثنى فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ صالح شرف عضو جماعة كبار العلماء – أطال الله عمره – بأن الشيخ توفيق البتشتى زار جهينة بحشد كبير احتفالاً بأحد طلبته الذين نالوا شهادة العالمية ، فبهر هذا الاحتفال شاباً فى سن الثامنة عشرة يعمل فى الزراعة ، وقال لنفسه : إننى لو انتسبت إلى الأزهر وحصلت على العالمية سيحتفل بى الشيخ توفيق مثل هذا الاحتفال . وترك الشاب زراعته وانتسب إلى الأزهر ونال ( الشيخ عزوز الجهنى ) العالمية من الأزهر بسبب هذا الاحتفال .
شتى نسبة إلى بلده أبوتشت وهى بلدة قديمة نشأت منذ عهد الفراعنة كانت تسمى ( باداتشت ) أى الطريق الموصل إلى الوادى – الذى كان يقع فى الصحراء الغربية ، مساحته ثلاثة ملاين فداناً تزرع قمحاً ، وكانت تبدأ طريقه من هذه القرية ، ثم حرف أسمها إلى ( ابتشت ) ثم حرف إلى ( أبوتشت ) .